فصل: تفسير الآيات رقم (64- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ إنما وحّد الضمير في ‏(‏يُرضوه‏)‏ إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر، فكأنهما شيء واحد، أو لأن الكلام إنما هو في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه، فذكر الله تعظيماً لجانب الرسول، أو لأن التقدير‏:‏ والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك؛ فهما جملتان‏.‏ والضمير في ‏(‏أنه من يُحادِدِ‏)‏‏:‏ ضمير الشأن‏:‏ و‏(‏فأن‏)‏‏:‏ إما تأكيد لأن الأُولى، وجملة ‏(‏فله‏)‏‏:‏ جواب، أو تكون بدلاً منها، أو في موضع خبر عن مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فحقٌ، أو واجب له نار جهنم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله‏}‏ أي‏:‏ المنافقون، ‏{‏لكم‏}‏ أيها المؤمنون، حين يعتذرون في التخلف عن الجهاد وغيره، ‏{‏ليُرْضوكم‏}‏ أي‏:‏ لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم، ‏{‏واللَّهُ ورسولهُ أحقُ أن يرضُوه‏}‏ بالطاعة والوفاق، واتباع ما جاء به، ‏{‏إن كانوا مؤمنين‏}‏ صادقين في إيمانهم‏.‏ ‏{‏ألم يعلموا أنه‏}‏ أي‏:‏ الأمر والشأن، ‏{‏من يُحادِدِ اللَّهَ ورسولهُ‏}‏ يعاديهما، ويخالف أمرهما ‏{‏فأنّ له‏}‏؛ فواجبٌ أن له ‏{‏نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ‏}‏ أي‏:‏ الهول ‏{‏العظيم‏}‏، والهلاك الدائم، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ من أرضى الناسَ بسخط الله أسخطهم عليه وسخط عليه، ومن اسخط الناس في رضي الله أرضاهم عليه، ورضي عنه، فمن أقر منكراً؛ حياء أو خوفاً من الناس، فقد أسخط مولاه، ومن انكر منكراً، ولم يراقب أحداً فقد أرضى مولاه، ومن راقب الناس لم يراقب الله، ومن راقب الله لم يراقب الناس، ‏{‏والله ورسوله أحق أن يُرضُوه إن كانوا مؤمنين‏}‏‏.‏ وتأمل قول الشاعر‏:‏

مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمّاً *** وفَازَ باللذاتِ الجسُور

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمائر في «عليهم»، و«تنبئهم»، و«قلوبكم»، تعود على المنافقين؛ خلافاً للزمخشري في الأولين، فقال‏:‏ يعود على المؤمنين، وتبعه البيضاوي‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يحذَرَ المنافقون أن تُنَزّلَ عليهم‏}‏ أي‏:‏ في شأنهم، ‏{‏سورةٌ‏}‏ من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏تُنبئهم‏}‏ أي‏:‏ تخبرهم، أي‏:‏ المنافقين، ‏{‏بما في قلوبهم‏}‏ من الشك والنفاق، وتهتك أستارهم، وكانوا يستهزئون بأمر الوحي والدين، فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏استهزئوا‏}‏؛ تهديداً لهم، ‏{‏إن الله مُخرِجٌ ما تحذَرُون‏}‏ من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم‏.‏

‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ عن استهزائهم، ‏{‏ليقولن إِنما كنا نخوضُ ونلعبُ‏}‏ فيما بيننا‏.‏ رُوي أن ركباً من المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، فقالوا‏:‏ انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات‏!‏ فأخبر الله نبيه، فدعاهم فقال‏:‏ «قلتم‏:‏ كذا وكذا‏؟‏» فقالوا‏:‏ لا، والله، ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكنا كنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أباللّهِ وآياتِه ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏، توبيخاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به، ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ أي‏:‏ لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة؛ ‏{‏قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ أي‏:‏ قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن عليه، بعد إظهار إيمانكم الكاذب‏.‏ ‏{‏إن نعفُ عن طائفةٍ منكم‏}‏؛ بتوبتهم وإخلاصهم، حيث سبق لهم ذلك؛ كانَ منهم رجل اسمه مَخشِيّ، تاب ومات شهيداً‏.‏ أو لكفهم عن الإيذاء، ‏{‏نُعَذِّب طائفة بأنهم كانوا‏}‏ في علم الله ‏{‏مجرمين‏}‏؛ مُصرين على النفاق، أو مستمرين على الإيذاء والاستهزاء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الاستهزاء بالأولياء والطعن عليهم من أسباب المقت والبعد من الله، والإصرار على ذلك شؤمه سوء الخاتمة، وترى بعض الطاعنين عليهم يحذر منهم أن يكاشفوا بأسراهم، وقد يُطلع الله أولياءه على ذلك، وقد لا يطلعهم، وبعد أن يطلعهم على ذلك لا يواجهوهُم بكشف أسرارهم لتخلقهم بالرحمة الإلهية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال في الأساس‏:‏ ومن المجاز‏:‏ نَسيتُ الشيء‏:‏ تركتُه، ‏(‏نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ‏.‏ قال في المشارق‏:‏ ونسي بمعنى ترك، معناه مشهور في اللغة، ومنه‏:‏ ‏(‏نسوا الله فنسيهم‏)‏ أي‏:‏ تركوا أمره فتركهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏كالذين من قبلكم‏)‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ أنتم كالذين، أو مفعول بمحذوف، أي‏:‏ فعلتم مثل فعل من قبلكم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم من بعض‏}‏ أي‏:‏ متشابهة في الكفر والبعد عن الإيمان، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم في النفاق والكفر، وهو نفي لأن يكونوا مؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله‏:‏ ‏{‏إنهم لمنكم‏}‏ وتقرير لقوله‏:‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏يأمرون بالمنكر‏}‏؛ كالكفر والمعاصي، ‏{‏وينْهَون عن المعروف‏}‏؛ كالإيمان والطاعة، ‏{‏ويقبضُون أيديَهم‏}‏ عن الإعطاءِ المبار، وهو كناية عن البخل والشح‏.‏ ‏{‏نَسُوا الله‏}‏ أي‏:‏ غفلوا، أي‏:‏ أغفلوا ذكره، وتركوا طاعته، ‏{‏فنسيهم‏}‏؛ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله، ‏{‏إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏؛ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير‏.‏

‏{‏وَعدَ اللَّهُ المنافقين والمنافقاتِ والكفارَ‏}‏ أي‏:‏ المهاجرين بالكفر، ‏{‏نارَ جهنم خالدين فيها‏}‏ أي‏:‏ مقدرين الخلود‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ الأصل في الشر أن يقال‏:‏ أوعد، وإنما يقال فيه‏:‏ «وعد» إذا صرح بالشر‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏هي حَسْبُهُم‏}‏ أي‏:‏ جزاؤهم عقاباً وعذاباً، وفيه دليل على عظم عذابها، ‏{‏ولعنهم الله‏}‏؛ أبعدهم من رحمته، وأهانهم، ‏{‏ولهم عذابٌ مقيم‏}‏ لا ينقطع، وهو العذاب الذي وعدوه، أو ما يقاسونه من تعب النفاق، والخوف من المؤمنين‏.‏

‏{‏كالذين من قبلكُم‏}‏ أي‏:‏ أنتم كالذين من قبلكم، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، ‏{‏كانوا أشدَّ منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً‏}‏، وهو بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم، ‏{‏فاستمتعوا بخلافكم‏}‏ أي‏:‏ نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها، فأمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً، فرحلوا عنه وتركوه، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، ‏{‏فاستمتعتُم‏}‏ أنتم ‏{‏بخلاقِكم‏}‏ أي‏:‏ بنصيبكم مما خلق الله لكم وقدره لكم في الأزل، ‏{‏كما استمتع الذين من قبلكُم بخلاقِهِم‏}‏، ثم تركوا ورحلوا عنه، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المُخدَّجة من الشهوات الفانية، والتِهَائِهم بها عن النظر في العاقبة، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيرة؛ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وخُضْتُم‏}‏ في الباطل ‏{‏كالذي خاضُوا‏}‏ أي‏:‏ كخوضهم، أو كالخوض الذي خاضوه، وقيل‏:‏ كالذين خاضوا فيه، فأوقع الذم على الجميع‏.‏ ‏{‏أولئك حبِطَتْ أَعمالُهم في الدنيا والآخرة‏}‏ أي‏:‏ لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، ‏{‏وأولئك هم الخاسرون‏}‏؛ الكاملون في الخسران، خسروا الدنيا والآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لأهل الإيمان الكامل أن يتباعدوا عن أوصاف المنافقين؛ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويمدّون أيديهم بالعطاء والإيثار، ويذكرون الله على سبيل الاستهتار، حتى يذكرهم برحمته‏.‏ ويتشبهون بمن قبلهم من الصالحين الأبرار، فقد استمتعوا بلذيذ المناجاة، وحلاوة المشاهدات، وبلطائف العلوم والمكاشفات، أولئك الذين ثبتت لهم الكرامة من الله في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الفائزون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ في شأن المنافقين‏:‏ ‏{‏ألم يأتهم نبأُ‏}‏‏:‏ خبر ‏{‏الذين من قبلِهمْ‏}‏، كيف دمرهم الله وأهلكهم، حيث خالفوا رسلهم، ‏{‏قوم نوح‏}‏؛ أغرقهم بالطوفان، ‏{‏و‏}‏ وقوم ‏{‏عاد‏}‏؛ أهلكهم بالريح، ‏{‏وثمودَ‏}‏؛ أهلكهم بالصيحة، ‏{‏وقومِ إبراهيم‏}‏؛ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه به، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم، ودخلت بعوضة في دماغه فأكلت دماغه، حتى هلك، ‏{‏وأصحاب مَدينَ‏}‏، وهم قوم شعيب، أُهلكوا بالنار يوم الظلة، ‏{‏والمؤتفكات‏}‏؛ مدائن قوم لوط، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارات من سجيل‏.‏ ‏{‏أتتهم رسلُهم‏}‏ أي‏:‏ كل واحدة منهن أتاها رسول ‏{‏بالبيات‏}‏؛ بالمعجزات الواضحة، ‏{‏فما كان الله ليظلمهم‏}‏ أي‏:‏ لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس، كالعقاب بلا جرم‏.‏ ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يَظلمُون‏}‏؛ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة، فيجتنبها بقدر الإمكان؛ فينظرها ما فعل الله بأهل المخالفة والمعاصي، فيهرب منها بقدر إمكانه، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز في الدارين، فيبادر إليها فوق ما يطيق، ويعظم الرسل، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم؛ فهذا يسعد سعادة الدارين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ‏}‏ أي‏:‏ أصدقاء ‏{‏بعضٍ‏}‏، هذا في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏، وحض المؤمنين بالوصف بالولاية، ‏{‏يأمرون بالمعروف وينهَونَ عن المنكر‏}‏؛ ضد ما فعله المنافقون، ‏{‏ويُقيمون الصلاة وَيُؤتون الزكاة‏}‏؛ ضد قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقْبِضُون أَيْدِيَهُمْ‏}‏، ‏{‏ويُطيعون الله ورسوله‏}‏ في سائر الأمور، ضد قوله‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏، ‏{‏أولئك سيرحمهم الله‏}‏ لا محالة؛ لأن السين مؤكدة للوقوع، ‏{‏إن الله عزيزٌ‏}‏؛ غالب على كل شيء، ولا يمتنع عليه ما يريده، ‏{‏حكيم‏}‏ يضع الأشياء مواضعها‏.‏

ثم ذكر ما أعد لهم فقال‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ومساكن طيبةً‏}‏ أي‏:‏ تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر»‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ «إنَّ في الجنَّة غُرفاً ظَاهِرُها من بَاطنِها مِنْ ظَاهِرهَا، أَعَدَّها اللَّهُ لِمَنْ أَطعَمَ الطَّعَام، وأَلانَ الكَلامَ، وبذَل السَّلام، وتَابَعَ الصِّيام، وصلَّى باللَّيلِ والناس نِيامٌ»‏.‏

وذلك ‏{‏في جنات عَدنْ‏}‏، أي‏:‏ إقامةٍ وخلود‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «جنات عدن‏:‏ دار الله، التي لم ترها عين، ولا تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاث‏:‏ النبيون، والصديقون، والشهداء‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏طوبى لمن دخلك‏}‏ قاله البيضاوي‏.‏ ثم قال‏:‏ ومرجع العطف فيها أي‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومساكن طيبة‏}‏ يحتمل أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له، أي‏:‏ فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن، أو للجميع؛ على سبيل التوزيع، أي‏:‏ فالجنات والمساكن معدة للجميع، ثم يقسمونها على حسب سعيهم في الدنيا، أو إلى تغاير وصفه أي‏:‏ الموعود فكأنه وصفه أولاً بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها؛ لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين‏.‏ ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير‏.‏

ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ورضوانٌ من الله أكبرُ‏}‏؛ لأنه المَبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏» إنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ‏:‏ هَلْ رَضيتُم‏؟‏ «فَيَقُولونَ‏:‏ وَما لَنَا لا نَرضى وَقَد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً مَنْ خَلقِكَ، فيَقُول‏:‏ أَنَا أُعطِيكُم أفضل مَنْ ذَلِكَ‏.‏ قالوا‏:‏ أَيّ شَيء أَفضَلُ مَنْ ذلِكَ‏؟‏ قال‏:‏» «أُحِلَ عَلَيكُم رِضوَاني فَلاَ أسخَطُ عَلَيكُم أَبَدا» ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ الرضوان، أو جميع ما تقدم، ‏{‏هو الفوزُ العظيم‏}‏ الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها‏.‏

ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أعد الله لأهل الإيمان الحقيقي؛ الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في مرضاته، جنات المعارف، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحِكَم، ومساكن طيبة، وهي‏:‏ عكوف أرواحهم في الحضرة، متلذذين بحلاوة الفكرة والنظرة، في محل المشاهدة والمكالمة، والمساررة والمناجاة، ورضوان من الله، الذي هو نعيم الأرواح، أكبر من كل شيء؛ لأن نعيم الأرواح أجل وأعظم من نعيم الأشباح، حتى أن المقربين ليضحكون على أهل اليمين، حين يرونهم يلعبون مع الولدان والحور، كما ذكر الغزالي‏.‏ وأما المقربون فيشاركونهم في ذلك، ويزيدون عليهم بلذة الشهود‏.‏

قال القشيري، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ أصحبَ الجنَّة اليومَ في شُغُلٍ فَكِهُون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 55‏]‏‏:‏ إنه لا تنافي بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود أمرهم، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم‏.‏ انتهى لفظه، وهو حسن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبيُّ جاهد الكفار‏}‏ بالسيف، ‏{‏والمنافقين‏}‏ باللسان؛ بإلزام الحجة وبإقامة الحدود؛ ما لم يظهر عليهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر عليهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، فيقتل على المشهور‏.‏ ‏{‏واغْلظْ عليهم‏}‏ بالقول والفعل، إن استوجبوا ذلك، ولا تراقبهم، ‏{‏ومأواهم جهنُم وبئس المصير‏}‏ أي‏:‏ المرجع، مصيرهم‏.‏

‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏، رُوي‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المختلفين فقال الجُلاس بن سُويد‏:‏ لئن كان ما يقول محمد في إخواننا حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستحضره، فحلف بالله ما قال، فنزلت، فتاب الجُلاس، وحسُنَت توبته‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏، يعني‏:‏ ما تقدم من قول الجُلاس، أو قول ابن أُبيّ‏:‏ سَمِّن كَلبَك يأكُلك، أو‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ ‏{‏كفروا بعد إسلامهم‏}‏؛ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، ولم يقل بعد إيمانهم، لأنهم يقولون بألسنتهم‏:‏ آمنا، ولم يدخل في قلوبهم، ‏{‏وهَمُّوا بما لم ينالوا‏}‏ من قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو‏:‏ أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مَرْجِعِه من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا وصل إلى العَقَبة بالليل، فأخذ عمَّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحُذيفة خلفها يسوقها، فبينما هم كذلك إذ سمع حُذَيفة تقعقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فقال‏:‏ إليكم إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا‏.‏ أو‏:‏ هموا بإخراجه من المدينة، أو إخراج المؤمنين، أو هموا بأن يُتَوجُوا عبد الله بن أُبي، وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينالوا شياً من ذلك‏.‏

‏{‏وما نَقَمُوا‏}‏ أي‏:‏ وما عابوا وكرهوا ‏{‏إلا أن أغناهم الله ورسولُهُ من فضله‏}‏ الذين حقهم أن يشكروا عليه، وذلك أن اكثر أهل المدينة كانوا محاويج، في ضَنَكٍ من العيش، فلما قَدِمَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، وقُتِلأ للجُلاَس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينه اثنى عشر ألفاً، فأُعطيت له، فاستغنى‏.‏

‏{‏فأن يتوبُوا يَكُ خيراً لهم‏}‏، وهذا حمل الجلاس على التوبة، والضمير يعود على الرجوع المفهوم من التوبة، ‏{‏وإن يتولوا‏}‏ عنك؛ بالإصرار على النفاق، ‏{‏يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة‏}‏؛ بالقتل والنار، ‏{‏وما لهم في الأرض من وليِّ ولا نصير‏}‏ ينجيهم من العذاب‏.‏

الإشارة‏:‏ كفار الخصوصية على القسمين‏:‏ قسم أظهروا الإنكار على أهلها، وقسم أبطنوه وأظهروا الوفاق، ففيهم شبه بأهل النفاق، فينبغي الإعراض عن الجميع، والاشتغال بالله عنهم، وهو جهادهم والإغلاظ عليهم، فعداوة العدو حقاً هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقاً‏.‏ وقد تَصْدر عنهم في جانب أهل الخصوصية مقالات ثم ينكرونها، وقد يَهمُّوا بما لم ينالوا من إذايتهم وقتلهم، لو قدروا‏.‏ والله يتولى الصالحين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏لئن آتانا من فضله لنصدِّقنّ ولنكونَنَّ من الصالحين‏}‏، وهو ثعلبة بن حاطب، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ادعُ الله يرزقني مالاً‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا ثعلبة، قليلٌ تُؤدي شُكرَهُ خيرٌ من كثير لا تُطيقه» فراجعه، وقال‏:‏ والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فدعا له، فاتخذ غنماً، فَنَمت كما تنمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل‏:‏ كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ، فقال‏:‏ «يا ويح ثعلبة»‏.‏ فبعث له مُصدقين لأخذ الصدقات؛ فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومروا بثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه الكتابَ الذي فيه الفرائض، فقال‏:‏ ما هذه صدقة، ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعا حتى أرى رأيي، فنزلت فيه الآية، فجاء ثلعلبة بالصدقة، فقال‏:‏ إن الله منعني أن أقبل منك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هذا منك؛ فقد أمرتُك فلم تطعني» فقُبض الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر، فلم يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته، فلم يقبلها منه، وهلك في زمن عثمان، بعد أن لم يقبلها منه‏.‏

وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فلما آتاهم من فضله بخلوا به‏}‏ أي‏:‏ منعوا حق الله منعه، ‏{‏وتولوا‏}‏ عن طاعة الله ‏{‏وهم مُعرضون‏}‏ أي‏:‏ وهم قوم عادتهم الإعراض عنها، ‏{‏فأعقَبهم‏}‏ أي‏:‏ فأردفهم ‏{‏نفاقاً في قلوبهم‏}‏؛ عقوبة على العصيان بما هو أشد منه، أو فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً متمكناً في قلوبهم وسوء اعتقاد‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ ويجوز أن يكون الضمير للبخل، والمعنى‏:‏ فأورثهم البخلُ نفاقاً متمكناً في قلوبهم ‏{‏إلى يوم يَلْقونه‏}‏، أي‏:‏ يلقون الله بالموت، والمراد‏:‏ يلقون جزاءه أو عقابه‏.‏ وذلك ‏{‏بما أخَلَفوا اللَّه ما وعدوه‏}‏ أي‏:‏ بسبب إخلافهم ما وعده من التصدق والصلاح، ‏{‏وبما كانوا يكذبُون‏}‏ أي‏:‏ وبكونهم كاذبين فيه؛ فإن خلف الوعد متضمن للكذب، مستقبح من الوجهين‏.‏

‏{‏ألم يعلموا‏}‏ أي‏:‏ المنافقون، أو من عاهد الله، ‏{‏أن الله يعلمُ سِرهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما أسروا في أنفسهم من النفاق، ‏{‏ونجواهم‏}‏؛ ما يتناجون فيه، فيما بينهم، من المطاعن وتسمية الزكاة جزية، ‏{‏وأنَّ الله علامُ الغيوب‏}‏؛ فلا يخفى عليه شيء من ذلك، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الحِكَم العطائية‏:‏ «من تمام النعمة عليك‏:‏ أن يرزقك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك»‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «خير الرِّزقِ ما يَكفي، وخَيرُ الذِّكرِ الخَفيُّ»‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما طَلَعت شمسٌ إلا وَبِجَنْبيها ملكان يُناديَان، يُسمعان الخَلائِقَ‏:‏ أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربَّكم، ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مما كَثرَ وألهى»‏.‏ وقال بعض العارفين‏:‏ كل من لا يعرف قدر ما زوي عنه في الدنيا، ابتلى بأحد وجهين‏:‏ إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات، أو رغبة في غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه‏.‏

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس» وغنى النفس عن الدنيا‏:‏ شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين‏.‏ ولقد صدق قول الشاعر‏:‏

غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ *** فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا

وقد قيل‏:‏ من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عيني قلبه‏.‏ وقالت الجارية المجنونة لعبد الواحد بن زيد‏:‏ يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفاية، ثم مال إلى الدنيا، سلبه الله حلاوة الزهد، فيظل حيراناً والِهاً، فإن كان له عند الله تعالى نصيب، عاتبه وحياً في سره، فقال‏:‏ عبدي؛ أردتُ أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وإجعلك دليلاً لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي، فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني؛ فورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، عبدي؛ ارجع إلى ما كنت عليه، أرجعْ بك إلى ما كنت تعرفه‏.‏ ه‏.‏ وقد تقدمت الحكاية‏.‏ وفي بعض الكتب‏:‏ إن أهون ما أصنع بالعالِمِ، إذا مال إلى الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتي‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏الذين‏)‏‏:‏ مبتدأ حُذف خبره، أي‏:‏ منهم الذين، أو خبر عن مبتدأ، أو منصوب على الذم، أو بدل من ضمير سرهم‏.‏ وأصل المطوعين‏:‏ المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، ‏(‏وجهدهم‏)‏‏:‏ مصدر جهد في الأمر‏:‏ بالغ فيه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ومنهم ‏{‏الذين يلمزون‏}‏ أي‏:‏ يعيبون ‏{‏المُطَّوِّعِين من المؤمنين في الصدقات‏}‏، روي أنه صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ بأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهم، وقال‏:‏ كان لي ثمانية آلافٍ، فأقرضت ربي أربعة، وأمسكت لعيالي أربعة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «باركَ الله لكَ فِيما أَعطَيت وفيما أمْسَكْتَُ»‏.‏ فبارك الله له حتى صالحته إحدى زوجتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم‏.‏ وتصدق عاصم بن عدي بثمانية أوسق تمراً، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَنْثُرَه على تمر الصدقات، فلمزَهم المنافقون، وقالوا‏:‏ ما أعطي عبد الرحمن عاصم إلا رياءً، ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، فنزلت الآية‏.‏

ونزلت في أبي عقيل‏:‏ ‏{‏والذين لا يجِدُون إلا جُهدهُم‏}‏؛ إلا طاقتهم، ‏{‏فيسْخَرون منهم‏}‏؛ يستهزئون بهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏سخر الله منهم‏}‏؛ جازاهم على سخريتهم، كقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَستَهزئُ بِهِم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏، ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ على كفرهم‏.‏

‏{‏اسْتَغفِر لهم أو لا تستَغفر لهم‏}‏، يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة، كما نص عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إن تستغفر لهم سبعينَ مرة فلن يغفر الله لهم‏}‏، رُوي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من خيار المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مرض أبيه، أن يستغفر له، ففعل، فنزلت‏:‏ ‏{‏سَوآء علَيهم أَستَغفَرتَ لَهم أَم لَم تَستَغفر لَهم لَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام فَهِمَ من السبعين العدد المخصوص، وقال‏:‏ ولو علمت أني إن زدت على السبعين، غُفِر له، لزدت، فبيَّنَ له أن المراد به التكثير، دون التحديد، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في التكثر؛ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه بأسره قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ عدم قبول استغفارك بسبب أنهم ‏{‏كفروا بالله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ ليس لبُخل منا، ولا تقصير في حقك، بل لعدم قابليتهم؛ بسبب الكفر الصارف عنها‏.‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏؛ المتمردين في كفرهم، وهو كالدليل على الحكم السابق، فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر، والإرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره، المطبوع عليه، لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره، وهو عدم يأسه من إيمانهم، ما لم يعلم مطبُوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم؛ لقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ للِنَّبيِ وَالَّذِينَ ءَامَنوا أن يستَغفِروا للِمُشرِكِينَ‏}‏‏.‏‏.‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ من نصب الميزان على المؤمنين فيما يصدر منهم، أو على الصالحين أو الأولياء فيما يظهر عليهم، حتى يسخر منهم، سخر الله منه، وأبعده من رحمته، فلا تنفع فيه شفاعة الشافعين ولا استغفار المستغفرين‏.‏ وفي بعض الأخبار‏:‏ «من تتبع عورة أخيه المؤمن تتبع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته»‏.‏ ومن اشتغل بإذاية الأولياء، ولم يتب، مات على سوء الخاتمة، وذلك جزاء من حارب الله والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏خلافَ رسول الله‏)‏‏:‏ منصوب على الظرفية، أي‏:‏ بعده، يقال‏:‏ أقام خلاف الحي، أي‏:‏ بعدهم، وقيل‏:‏ مصدر خالف، فيكون مفعولاً لأجله، أو حال‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فَرَحَ المخلَّفُون‏}‏ أي‏:‏ الذين خلفهم الله عن الغزو، وأقعدهم عنه، ولذلك عبَّر بالمخلفين دون المتخلفين، فرحوا ‏{‏بمقعدهم خلافَ رسول الله‏}‏ أي‏:‏ بعده في غزوة تبوك، ‏{‏وكَرِهُوا أن يُجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله‏}‏؛ إيثاراً للراحة والدّعَةِ على طاعة الله ورسوله‏.‏ وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه؛ ببذل الأموال والمهج، وأما المنافقون فآثروا الراحة وقعدوا، ‏{‏وقالوا لا تَنفروا في الحر‏}‏، قاله بعضهم لبعض، أو قالوه للمؤمنين تثبيطاً لهم‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ قائل هذه المقالة رجل من بني سليم، ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏قلْ نارُ جهنم أشدُّ حراً‏}‏، وقد آثرتموها بهذه المخالفة، ‏{‏لو كانوا يفقهون‏}‏ أن مآلهم إليها، أو كيف هي‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ ما اختاروا بإيثار الدعة على الطاعة‏.‏

‏{‏فليضْحَكُوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسِبُون‏}‏، وهو إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة، أي‏:‏ سيضحكون قليلاً، ويبكون كثيراً؛ لما يرون من سوء العاقبة، وأتى به على صيغة الأمر؛ للدلالة على أن حَتمٌ واجب وقوعه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ أمرٌ بمعنى الخبر، فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها، وبكاؤهم الكثير في الآخرة، أي‏:‏ سيضحكون قليلاً في الدنيا، ويبكون كثيراً في الآخرة، وقيل‏:‏ هو بمعنى الأمر، أي‏:‏ يجب أن يكونوا يضحكون قليلاً ويبكون كثيراً في الدنيا، لِمَا وقعوا فيه‏.‏‏.‏

‏{‏فإنَّ رجعَك اللَّهُ إلى طائفَةٍ منهم‏}‏ أي‏:‏ فإن ردك الله من الغزو إلى المدينة، وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم وكانوا اثنى عشر رجلاً ممن تخلف من المنافقين، وإنما لم يقل‏:‏ إليهم؛ لأن منهم من تاب من النفاق، وندم على التخلف، ‏{‏فاستأذنوك للخروج‏}‏ معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، ‏{‏فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تُقاتلوا معي عدواً‏}‏؛ عقوبة لهم، وفيها خزي وتوبيخ لهم، ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود أَوَّلَ مرةٍ‏}‏، يعني‏:‏ عن تبوك، وهو تعليل لعدم خروجهم معه في المستقبل، ‏{‏فاقعدُوا مع الخالفين‏}‏ أي‏:‏ المتخلفين، أي‏:‏ لعدم تأهلهم للجهاد كالنساء والصبيان‏.‏

الإشارة‏:‏ من قلَّ إيقانه، وضعف نور إيمانه، فرح ببقائه، مع متابعة هواه وتيسير أمور دنياه، وكره ارتكاب مشاق المجاهدة، واقتحام حَر المخالفة والمكابدة، وثبط من رآه يروم تلك الوجهة، ويريد أن يتأهب لدخول ميدان تلك الحضرة؛ فسَنَندم قريباً، حين يفوز الشجعان بحضرة الوصال، ويتأهلون لمشاهدة الكبير المتعال، ولا ينفع الندم وقد زلت القدم، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى‏.‏ ‏{‏والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 10 12‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏أبداً‏)‏‏:‏ ظرف لمات، أي‏:‏ مات في مدة لا حياة بعدها؛ فإنا حياة الكافر للتعذيب، وهي كلا حياة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولا تُصَلِّ على أحدٍ‏}‏ من المنافقين إذا مات على كفره، بحيث ‏(‏مات أبداً‏)‏ أي‏:‏ موتة لا حياة بعدها‏.‏ نزلت في عبد الله بن أُبي رأس المنافقين، فإنه لما مرض، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يستغفر له ويكفنه في ثوبه الذي يلي جسده، ويصلي عليه، فلما مات أرسل قميصه ليُكفن فيه، وذهب ليصلي عليه، فنزلت‏.‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم للصلاة عليه جَذَبَه جبريل بثوبه، وتلا عليه الآية فانصرف، ولم يصلِّ عليه‏.‏ وقيل‏:‏ صلى عليه ثم نزلت‏.‏ وفي البخاري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدمَ للصلاة عليه جَذَبَهُ عمر، فقال‏:‏ كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك عن الصلاة على المنافقين‏؟‏ فقال‏:‏ «إِنَّما خَيَّرَنِي‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه، ونهى عن الصلاة عليه؛ لأن الضنة بالقميص كانت مُخِلة بالكرم، ولأنه كان مكافأة لإلباس العباس قميصه حين أُسر ببدر، والمراد من الصلاة‏:‏ الدعاء للميت والاستغفار له، وهو ممنوع في حق الكافر، ولذلك رتب النهي على قوله‏:‏ ‏(‏مات أبداً‏)‏؛ يعني‏:‏ الموت على الكفر، فإن إحياء الكافرين للتعذيب، دون التمتع، فكأنه لم يحيى‏.‏ ه‏.‏

واستدل ابن عبد الحكم، بهذه الآية، على وجوب الصلاة على المؤمنين، وقرر اللخميُّ وجه الدليل منها بطريق النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأن ضد النهي عن الصلاة أمر بها‏.‏ وأبطله المازوي قائلاً‏:‏ وإنما هو من دليل الخطاب، ومفهوم المخالفة، وبيان عدم صحة كونها من باب النهي عن الشيء، أَنَّ شرط ذلك اتحاد متعلق الأمر والنهي، كقولك لزيد‏:‏ لا تسكن، ومعناه تحرك، ومتعلقهما هنا مختلف، فمتعلق النهي‏:‏ المنافقون، ومتعلق الأمر‏:‏ المؤمنون‏.‏ وكذا رد كونها دالة مفهوم المخالفة‏.‏ انظر الحاشية الفاسية‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقُم على قبره‏}‏ أي‏:‏ ولا تقف على قبره للدفن، أو الزيادة، ثم علل النهي فقال‏:‏ ‏{‏إِنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا‏}‏، والحال أنهم ‏{‏فاسقون‏}‏؛ خارجون عن دائرة الإسلام‏.‏

ثم نهى عن الاغترار بمالهم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تُعجِبُكَ أَموالُهم وأولادهم إنما يريد اللهُ أن يُعذبهم بها في الدنيا وتزهَق أنفسهم وهم كافرون‏}‏، وقد تقدم، وإنما كرره؛ للتأكيد، وهو حقيق به؛ فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد، والنفوس مجبولة على حبهما، فكرر النهي عن الاعترار بهما، ويجوز أن تكون هذه فريق آخر غير الأول‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا حصل للعبد القرب من الحبيب قربت منه الأشياء كلها، ورغبت في خُلّته الملائكةُ والجنُّ والإنسُ والروحانيون، فإذا مات صلت على جسده أجناد الأرض، وعلى روحه أجناد السماء، وفرحن بقدومه الملائكة والروحانيون، وربما شفعه الله في أهل عصره أجمعين، وإذا حصل للعبد البعد من ربه بعدت عنه الأشياء كلها، ورفضت جسده وروحه الجن والإنس والملائكة، فلا يصل عليه أحد، ولا يقف على قبره بشر، فالحذر الحذر من كل ما يبعد من حضرة الحبيب من المخلفات والإصرار على الزلات، فإنه بريد الكفر، الذي هو البعد الكبير والعياذ بالله‏.‏

والبدارَ البدارَ إلى ما يقرب من الحبيب، من أنواع الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، وسائر الأخلاق الحسنة والشيم المستحسنة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 89‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة‏}‏، أو بعضها، في شأن الجهاد قائله‏:‏ ‏{‏ان آمنوا بالله‏}‏ وحده، ‏{‏وجاهدوا مع رسوله‏}‏ صلى الله عليه وسلم، ‏{‏استأذَنَكَ‏}‏ في التخلف ‏{‏أُولو الطَّولِ منهم‏}‏ أي‏:‏ أولو الغنى والسعة، ‏{‏وقالوا ذَرْنَا نكن مع القاعدين‏}‏؛ الذين قعدوا لعذر، ‏{‏وَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف‏}‏؛ مع النساء، جمع خالفة، وقد يقال‏:‏ الخالفة؛ للذي لا خير فيه‏.‏ ‏{‏وطبع على قلوبهم‏}‏ بالكفر والنفاق، ‏{‏فهم لا يفقهون‏}‏ ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة‏.‏

‏{‏لَكِنِ الرسولُ والذين آمنوا معه جاهدُوا بأموالهم وأنفسهم‏}‏ أي‏:‏ إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم، ‏{‏وأولئك لهم الخيراتُ‏}‏؛ منافع الدارين‏:‏ النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة، وقيل‏:‏ الحُور، لقوله ‏{‏فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 70‏]‏، و‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏؛ الفائزون بالمطالب البهية والمراغب السنية‏.‏ ‏{‏أعدَّ اللَّهُ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم‏}‏؛ بيان لبعض الخيرات الأخروية‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا ظهر الدعاة إلى الله يُشوقون الناس إلى حضرة الله؛ ترى من صُرِفَ عنه عِنَانُ العناية، ولم يضرب له مع السابقين بسهم الهداية، يميل إلى التقاعد إلى وطن الراحة، والميل إلى ما ألفه من سيئ العادة، يستأذن أن يتخلف مع النساء والصبيان، ويتنكب طريق الأقوياء من الشجعان، فإن تخلف هذا مع عوام الضعفاء فقد تقدم لهذا الأمر من يقوم به من الأقوياء، اختارهم الله لحضرته، وقواهم على مكافحة مشاهدته ومحبته، جاهدوا نفوسهم في معرفة محبوبهم، وبذلوا أموالهم ومهجهم في الوصول إلى مطلوبهم، ‏{‏وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏المُعَذَرُون‏)‏‏:‏ أصله‏:‏ المعتذرون، نقلت حركة التاء إلى العين، وأدغمت التاء في الذال‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ «المُعذِرونَ»‏:‏ اسم مفعول، من أعذر، إذا بالغ في العذر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وجاء المُعذرون عن الأعراب‏}‏ يعتذرون في التخلف عن الغزو؛ ‏{‏ليُؤذَنَ لهم‏}‏ في القعود، قيل‏:‏ هم أسد وغطفان؛ استأذنوا في التخلف، معتذرين بالجهد وكثرة العيال‏.‏ قيل‏:‏ كاذبين، وقيل‏:‏ صادقين‏.‏ وقيل‏:‏ هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا‏:‏ إن غزونا معك غارت طيّئ على أهالينا ومواشينا، وقيل‏:‏ نزلت في قوم من غِفار‏.‏

‏{‏وقَعَدَ الذين كذبوا اللَّه ورسوله‏}‏ من غير هؤلاء، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا في تخلفهم، فكذبوا في دعواهم الإيمان بالله ورسوله، يقال‏:‏ كذبت فلاناً بالتخفيف، أي‏:‏ أخبرته بالكذب‏.‏ ثم ذكر وعيدهم فقال‏:‏ ‏{‏سيُصيبُ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم‏}‏؛ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار‏.‏

الإشارة‏:‏ المتخلفون عن طريق الخصوص على ثلاثة أقسام‏:‏

قسم‏:‏ أقروا بها، وعرفوا صحتها، ثم شحوا بأنفسهم وبخلوا بأموالهم، فاعتذروا في التخلف عنها بأعذار باطلة، هؤلاء لا حجة لهم عند الله، وقوم أقبح منهم، لم يلتفتوا إلى من جاء بها ولم يرفعوا بذلك رأساً‏.‏ قال تعالى في مثلهم‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جواب «إذا» يحتمل أن يكون ‏(‏تولوا‏)‏، وجملة ‏(‏قُلتَ‏)‏‏:‏ حال من الكاف في ‏(‏أتوك‏)‏، أي‏:‏ أتوك قائلاً لا أجد‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، ويحتمل أن يكون الجوابُ‏:‏ «قلتَ»، و‏(‏تولوا‏)‏ استئناف لبيان حالهم حينئذٍ، و‏(‏من الدمع‏)‏‏:‏ للبيان، وهي مع المجرور، في محل نصب على التمييز، فهو أبلغ من تفيض دمعُها؛ لأنه يدل على أن العين صارت دمعاً فياضاً، و‏(‏حزناً‏)‏‏:‏ علة، أو حال، أو مصدر لفعل دل عليه ما قبله، ‏(‏ألا يجدوا‏)‏‏:‏ متعلق به، أي‏:‏ حزناً على ألاّ يجدوا ما ينفقون، و‏(‏إنما السبيل‏)‏ راجع لقوله‏:‏ ‏(‏ما على المحسنين من سبيل‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاءِ‏}‏؛ كالهرْمى، ‏{‏ولا على المرضى‏}‏؛ كالزّمْنَى ومن أضناه المرض، ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون‏}‏ في الغزو ‏{‏حَرَجٌ‏}‏ أي‏:‏ لا حَرج على هؤلاء في التخلف عن الغزو، ‏{‏إذا نَصَحوا الله ورسوله‏}‏ بالإيمان والطاعة في السر والعلانية‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في بني مُقرن، وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل في عبد الله بن مُغفل‏.‏

‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ أي‏:‏ ليس عليهم جناح، ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما وضع المحسنين موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين، غير معاتبين في ذلك، ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ بالمسيء فكيف بالمحسنين‏؟‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتُوكَ لتحملَهم‏}‏ معك إلى الغزو، وهم البكاؤون؛ سبعة من الأنصار‏:‏ مَعقِل بن يَسَار، وصَخْر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عُمَيْر، وثَعْلَبَة بن غَنَمة، وعبد الله بن مُغفَّل، وعُلْية بن زيد‏.‏ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المَرْقُوعة والنِّعال المَخْصُوفَة، نغزو معك، فقال‏:‏ لا أجد، فتولَّوا وهم يبكون‏.‏ وقيل‏:‏ هم بنو مُقَرِّن، وقيل‏:‏ أبو موسى وأصحابه، وعليه اقتصر البخاري‏.‏

‏{‏قلت لا أجِدُ ما أحملكم عليه‏}‏؛ وليس عندي ما أحملكم عليه، ‏{‏تولَّوا‏}‏ عنك ‏{‏وأعيُنهم تفيضُ من الدمع‏}‏ أي‏:‏ يفيض دمعها؛ ‏{‏حزناً‏}‏ على ‏{‏ألا يجدوا ما يُنفقون‏}‏ في غزوهم‏.‏

زاد البخاري‏:‏ فلما رجع أبو موسى وأصحابه، أُتي عليه الصلاة والسلام بِنَهَب إبل، فدعاهم وحملهم عليها، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إِنَّكَ حَلَفتَ أَلا تِحْمِلنَا، فخفنا أن نكون أغفلناك يمينك، فقال‏:‏ «ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإنِّي والله، ما أحْلِفُ على يَمِينٍ فَأرَى خَيْراً مِنْها إلا كَفّرْتُ عن يَمِيني وأَتَيتُ الذي هُوَ خَيْر»‏.‏ أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما السبيلُ‏}‏ أي‏:‏ الحرج والمعاتبة ‏{‏على الذين يستأذنونك‏}‏ في القعود، ‏{‏وهم أغنياء‏}‏؛ واجدون للأهبة، ‏{‏رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف‏}‏؛ كالنساء والصبيان، وهو استئناف لبيان ما هو السبب لاستثنائهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة، والانتظام في جملة النساء والصبيان؛ إيثار للدعة والكسل، ‏{‏وطَبَعَ اللَّهُ على قلوبهم‏}‏ بالكفر والغفلة؛ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة، ‏{‏فهم لا يعلمون‏}‏ ما يؤول إليه حالهم من الندم والأسف‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من لم ينهض إلى صحبة الخصوص؛ الذين جعلهم الله أدوية القلوب، توجه العتاب إليه يوم القيامة، إذ لا يخلو من لم يصحبهم من عَيب أو نقص أو خاطر سوء، حتى ربما يلقى الله بقلب سقيم‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ من لم يتغلغل في عملنا هذا، مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر‏.‏ وقال الغزالي‏:‏ دواء القلوب واجب عيناً على كل مسلم، فكل من قصر في ذلك عُوقب يوم القيامة، إلا من حبسه عذر صحيح‏:‏ من مرض مزمن، أو كبر سن، أو فقر مدْلق‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏، فإن أحبوا أولياء الله، وصدقوهم وعظموهم، ودلّوا الناس على صحبتهم، فهؤلاء محسنون، ‏{‏ما على المحسنين من سبيل والله غفور‏}‏ لضعفهم، ‏{‏رحيم‏}‏ بهم‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ ‏(‏إذا نصحوا لله ورسوله‏)‏ أي‏:‏ إذا عرّفوا عباد الله طريق الله، والأسوة بسنة رسول الله‏.‏ ه‏.‏ وقد قال الحواريون‏:‏ يا روح الله، ما النصيحة لله‏؟‏ قال‏:‏ تقديم حق الله على حق الناس‏.‏ ه‏.‏ ولا حرج أيضاً على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال، فإن من أعطى نفسه كفته عَن إعطاء المال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ إلى حضرة ‏{‏قلت لا أجد ما أحملكم عليه‏}‏؛ فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما، ‏{‏تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏؛ ليتحببوا به في قلوب المشايخ‏.‏ قال بعض المشايخ‏:‏ أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء، فلم يعتدلوا‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حزناً ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏، ليس حزنهم على فوات الدنيا، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول الله، وعن صحبة أهل الكمال‏.‏ وقال القشيري‏:‏ شقَّ عليهم أن يكون على قلب الرسول عليه الصلاة السلام منهم، أوبسببهم، شُغْلٌ، فَتَمنَّوا أن لو أزيحت علتهم، لا ميلاً إلى الدنيا؛ ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهةٌ، ولقد قيل‏:‏

مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديق لِقاؤه *** واخو الحوائج وجهه مَمْلولُ‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ مفعول ‏(‏نبأ‏)‏ الثاني‏:‏ محذوف، أي‏:‏ نبأنا جملة من أخباركم، و‏(‏جزاء‏)‏‏:‏ مصدر لمحذوف، أي‏:‏ يجازون جزاء أو علة، أي‏:‏ للجزاء بما كسبوا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يعتذرون إليكم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين، ‏{‏إذا رجعتم إِليهم‏}‏ من تبوك، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ بالمعاذير الكاذبة؛ لأنه ‏{‏لن نؤمن لكم‏}‏ أي‏:‏ لن نصدقكم فيها؛ لأنه ‏{‏قد نبأنا اللَّهُ من أخباركم‏}‏؛ أعلمنا بالوحي، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ببعض أخباركم، وهو ما في ضما ئركم من الشر والفساد‏.‏

‏{‏وسيَرَى الله عملكم ورسولُه‏}‏‏:‏ هل تتوبون من الكفر، أم تثبتون عليه‏؟‏ وكأنه استتابة وإمهال للتوبة، ‏{‏ثم تُردُّون إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ وهو الله، والأصل‏:‏ ثم تردون إليه؛ فوضع هذا الوصف موضع الضمير؛ للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعَلانيتهم، لا يعزب عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم، ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي‏:‏ يخبركم ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏؛ بالتوبيخ والعقاب عليه‏.‏

‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم‏}‏ من غزوكم؛ ‏{‏لتُعرضوا عنهم‏}‏ أي‏:‏ عن عتابهم، ‏{‏فأعرضوا عنهم‏}‏؛ لا توبخوهم؛ ‏{‏إنهم رِِجْسٌ‏}‏؛ لخبث قلوبهم لا ينفع فيهم التأنيب، فإن المقصود من العتاب‏:‏ التطهير بالحمل على الإنابة، وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، فهو علة للإعراض وترك المعاتبة، ‏{‏ومأواهم جهنمُ‏}‏ أي‏:‏ منقلبهم إليها، والمعنى‏:‏ أن النار كفتهم عتاباً، فلا تتكلفوا عتابهم، وذلك ‏{‏جزاءً بما كانوا يكسبون‏}‏ من الكفر والنفاق‏.‏

‏{‏يحلفُون لكم لتَرضَوا عنهم‏}‏ بحلفهم، فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من الستر والإرفاق، وإشراكهم في الغنائم، ‏{‏فإن تَرْضَوا عنهم‏}‏ بذلك ‏{‏فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ فإن رضاكم لا يستلزم رضى الله، ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، أو إن أمكنهم أن يُلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله؛ فإنه يهتك سترهم وينزل الهوان بهم‏.‏ والمقصود من الآية‏:‏ النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يظهر لهذه الطائفة منافقون، إذا ظهر على أهل الله عز أو نصر جاؤوا يعتذرون عن تخلفهم عنه، ويحلفون أنهم على محبتهم؛ فلا ينبغي الاغترار بشأنهم، ولا مواجهتهم بالعتاب؛ بل الواجب الإعراض عنهم والغيبة في الله عنهم، فسيرى الله عملهم ورسوله، ثم يردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئهم بما كانوا يعملون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏

‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏الأعرابُ‏}‏، وهم سكان البادية، قال ابن عزيز‏:‏ يقال‏:‏ رجل أعرابي، إذا كان بدوياً‏.‏ وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي، إذا كان منسوباً إلى العرب، وإن لم يكن بدوياَ‏.‏ أهل البوادي من المنافقين هم ‏{‏أشدُّ كفراً ونفاقاً‏}‏ من أهل الحاضرة، وذلك لتوحشهم وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب، ‏{‏وإجدَرُ‏}‏ أي‏:‏ أحق ‏{‏ألاّ يعلموا حدود ما أنزل اللَّهُ على رسوله‏}‏ من الشرائع وفرائضها وسننها، لبُعدهم عن مجالس العلم، ‏{‏والله عليمٌ حكيم‏}‏؛ يعلم كل واحد من أهل الوبَر والمدَر، حكيم فيما يدبر من إسكان البادية، أو الحاضرة، ويختار لكم واحد بحكمته البالغة ما يليق به، وسيأتي بقية الكلام على سكنى الحاضرة أو البادية في الإشارة، إن شاء الله‏.‏

‏{‏ومن الأعراب من يتخذ‏}‏ أي‏:‏ يعدُ ‏{‏ما ينفقُ‏}‏ من الزكاة وغيرها في سبيل الله، ‏{‏مَغرَماً‏}‏ أي‏:‏ غرامة وخسراناً؛ إذ لا يحتسبه عند الله، ولا يرجوا عليه ثواباً، وإنما ينفقه لرياء أو تقية، فيثقل عليه ثقل المغرم الذي ليس بحق، ‏{‏ويتربصُ بكم الدوائرَ‏}‏ أي‏:‏ دوائر الزمان ونُوبه، أو ينتظر بكم مصائب الزمان، لينقلب الأمر عليكم؛ فيتخلص من الإنفاق الذي كلف به‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم دائرةُ السَّوْءِ‏}‏، وهو دعاء عليهم بنحو ما يتربصونه أي‏:‏ عليهم يدور من الدهر ما يَسُوؤهم أو جعل الله دائرة السوء نازلة بهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قَبضته، ومن هذا قوله‏:‏ ‏{‏ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏، وهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى‏.‏ ه‏.‏ أو إخبار عن وقوع ما يتربصونه عليهم‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ الدوائر في الأصل‏:‏ مصدر أضيف إليه السوء؛ للمبالغة، كقولك‏:‏ رَجلُ صدق‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «السُّوء» هنا، وفي الفتح بضم السين‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏والله سميعٌ‏}‏ لما يقولونه عند الإنفاق ‏{‏عليم‏}‏ بما يضمرونه من الرياء وغيره‏.‏

ثم ذكر ضدهم، فقال‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذُ ما يُنفق‏}‏ أي‏:‏ يعد ما ينفقه من الزكاة وغيرها ‏{‏قرباتٍ عند الله‏}‏؛ تُقربهم إليه زلفى؛ لإخلاصهم فيها‏.‏ ‏{‏وصلواتِ الرسول‏}‏ أي‏:‏ ويتخذ ما ينفق سبَبَ صلوات الرسول؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للمتصدقين، ويقول‏:‏ اللهم صل على فلان، ويستغفر لهم‏.‏ ولذلك سُن للمصدّق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته، ولكن ليس له أن يصلي عليه، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك منصبه، فله أن يتفضل به على غيره‏.‏

‏{‏ألا إنها‏}‏ أي‏:‏ نفقاتهم، ‏{‏قُربة لهم‏}‏ تقربهم إلى حضرة ربهم، وهذا شهادة من الله لصحة معتقدهم وكمال إخلاصهم، ‏{‏سَيُدخلهم اللهُ في رحمته‏}‏، وعدٌ من الله لهم بإحاطة الرحمة بهم، أو سيدخلهم في جنته التي هي محل رحمته وكرامته، والسين لتحقيق وقوعه‏.‏

‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏؛ يغفرما فرط من الخلل، ويتفضل برحمته على ما نقص عن درجات الكمال‏.‏ قيل‏:‏ إن الآية الأولى نزلت في أسد وغطفان وبني تميم؛ فهم الذين يتخذون ما ينفقون مغرماً‏.‏ والثانية نزلت في عبد الله ذي البجادين وقومه؛ فهم الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد ورد الترغيب في سكنى المدن؛ لأنها محل العلم وسماع الوعظ، وفيها من يستعان بهم على الدين، وورد الترغيب أيضاً في سكنى الجبال والفرارا بالدين من الفتن، وخصوصاً في آخر الزمان‏.‏ ولهذا اختار كثير من الصحابة والتابعين سكنى البوادي؛ كأبي ذر؛ وسلمة بن الأكوع، وغيرهما رضي الله عنهم‏.‏

والتحرير في المسألة‏:‏ أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد، فمن كان مراده تحقيق الشريعة، وتحرير مسائل العلم الظاهر، والقيام بوظائف الدين، ولم يجد في البادية من يعينه على ذلك؛ فسكنى المدن أفضل له، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة، فالاعتزال في البوادي، وقرون الجبال، أوفق له، إن وجد من يستعين بهم على ذلك؛ لأن شواغل المدن، وعوائدها كثيرة، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية؛ فلا يجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى، بخلاف أهل البادية، هذه العوائد فيهم قليلة، وجُلّ أهلها على الفطرة‏.‏

وأيضاً‏:‏ هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا الله‏.‏ قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ أرحم الناس بالناس من يرحم من لا يرحم نفسه‏.‏ أي‏:‏ من يرحم الجاهل الذي لا يرحم نفسه؛ بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها‏.‏ وقال الغزالي في الإحياء‏:‏ يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس في البوادي؛ فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم الله، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وأما يذكر حديثاً‏:‏ «أمتي في المدن، وقليل في البادية» فلم يصح، بل قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة‏:‏ «اعبد الله حيثما كنت، فإن الله لن يترك من أعمالك شيئاً» وكذلك قوله‏:‏ إذا إراد الله بعبد خيراً نقله من البادية إلى الحاضرة؛ لم أقف عليه حديثاً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏السابقون‏)‏‏:‏ مبتدأ، ‏(‏والذين اتبعوهم‏)‏‏:‏ عطف عليه، وجملة ‏(‏رضي الله عنهم‏)‏‏:‏ خبر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏والسابقُون الأولون‏}‏ إلى الإسلام ‏{‏من المهاجرين‏}‏؛ وهم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بدراً، أو الذين أسلموا قبل الهجرة، ‏{‏و‏}‏ من ‏{‏الأنصار‏}‏؛ وهم أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة، أو أهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، أو الذين أسلموا حين قدم عليهم مُصعب بن عُمير‏.‏

‏{‏والذين اتبعوهم بإحسان‏}‏؛ اللاحقين بالسابقين من الفريقين، أو من الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة، ‏{‏رَضِيَ اللهُ عنهم‏}‏ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، ‏{‏ورَضُوا عنه‏}‏ بما نالوا من نِعَمه الدينية والدنيوية، ‏{‏وأعَدَّ لهم جنات تجري من تَحْتَها الأنهار‏}‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ «من تحتها»، كما هي في مصحف أهل مكة‏.‏ ‏{‏خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم‏}‏ أي‏:‏ الفلاح الدائم الكبير‏.‏

الإشارة‏:‏ لكل زمان سابقون، قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد، ورفضوا كل ما يقطعهم عن محبوبهم من العشائر والأولاد، قد خرقوا عوائد أنفسهم، فأبدلوا العز بالذل، والجاة بالخمول، والغنى بالفقر، والرفعة بالتواضع، والرغبة بالزهد، وشغل الظاهر بالتفرغ؛ ليتفرغ بذلك الباطن‏.‏ وسافروا في طلب محبوبهم، وصحبوا المشايخ، وخدموا الإخوان، حتى ارتفعت عنهم الحجب والأستار، وتمتعوا بمشاهدة الكريم الغفار؛ فتهيؤوا لتذكير العباد، وحيث بهم الأقطار والبلاد‏.‏ وفي مثلهم يقول الشاعر‏:‏

تَحيا بِكم كُل أَرضٍ تَنْزِلُون بها *** كَأَنَّكُم في بِقاع الأرض أَمطَار

وتَشتَهِي العينُ فيكم مَنْظَراً حسناً *** كأَنَّكُم في عُيون الناس أَقْمَارُ

‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وممن حولكم‏}‏، يا أهل المدينة، ‏{‏من الأعراب منافقون‏}‏ ساكنون حولكم، وهم‏:‏ جُهينة، ومُزينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كانوا نازلين حول المدينة، أما أسلم وغفار فتابوا، ودعا لهم عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها» وأما الباقي فأسلم بعضهم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أهل المدينة‏}‏ قوم ‏{‏مَرَدُوا‏}‏ أي‏:‏ استمروا ‏{‏على النفاق‏}‏، واجترؤوا عليه، وتمرنوا وتمهروا فيه، ‏{‏لا تعلمُهم‏}‏ أي‏:‏ لا تعرفهم يا محمد بأعيانهم، وهو بيان لمهارتهم وتنوقهم في تحري مواقع التهم إلى حد قد خفي عليك حالهم، مع كمال فطنتك وحِذقِ فراستك، ‏{‏نحنُ نعلمهم‏}‏، ونَطّلِع على أسرارهم إن قدروا أن يُلبسوا عليك فلا يقدرون أن يلبسوا علينا، ‏{‏سنعذّبهم مرتين‏}‏ بالفضيحة والقتل، أو بأحدهما وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان في الحرب، أو بإقامة الحدود وعذاب القبر، أو بتسليط الحُمى عليهم مرتين في السنة، ‏{‏ثم يُرَدُّون إلى عذاب عظيم‏}‏ بعد الموت، وهو عذاب النار‏.‏

الإشارة‏:‏ قد جعل الله سبحانه بحكمته وقدرته، في كُلَّ عصر وأوان بحرين‏:‏ بحراً من النور وبحراً من الظلمة، من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فلا بد في كل عصر من نور وظلمة، وإيمان وكفران، ونفاق وإخلاص، وصفاء وخوض، فأهل النور نورهم في الزيادة إلى قرب قيام الساعة، وأهل الظلمة كذلك إذ لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها، ولا يظهر شرف النور إلا بوجود الظلمة، ولا شرف الصفاء إلا بوجود الخوض، ولا فضل العلم إلا بوجود الجهل، وهكذا جعل الله من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار إلى الواحد الحق، فمن رام انفراد احدهما في الوجود فهو جاهل بحكمة الملك الودود‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ قوم ‏{‏آخرون اعترفوا بذُنوبهم‏}‏؛ وهو التخلف عن الجهاد، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة، وهم طائفة من المتخلفين لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجد، وقالوا‏:‏ لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين، على عادته، فرآهم وسأل عنهم، فذُكر له سببهم، فنزلت الآية فأطلقهم‏.‏

‏{‏خلطوا عملاً صالحاً‏}‏ بعمل سيء ‏{‏وآخر سيئاً‏}‏ بعمل صالح، خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب، بآخر سيئ وهو التخلف وموافقة أهل النفاق، أو خلطوا عملاً صالحاً، وهو ما سبق لهم من الجهاد مع الرسول، وغيره من الأعمال، بآخر سيئ، وهو تخلفهم عن تبوك‏.‏ ‏{‏عَسَى اللهُ أن يتوبَ عليهم‏}‏ أي‏:‏ يقبل توبتهم المدلول عليها بقوله‏:‏ ‏{‏اعترفوا بذنوبهم‏}‏، والرجاء في حقه تعالى واجب‏.‏ ‏{‏إن الله غفور رحيمٌ‏}‏ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليهم‏.‏

قال بعضهم‏:‏ ما في القرآن آية أرجى لهذة الأمة من هذه الآية‏.‏ وقال القشيري‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وآخر سيئاً‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏عملاً صالحاً‏}‏ دليل على أن الزَّلَّةَ لا تحبط ثوابَ الطاعة؛ إذ لو أحبطته لم يكن العملُ صالحاً، وهو كذلك‏.‏ انتهى‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وما ذكره من عدم الإحباط هو مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، ولا يعارضه حديث مسلم‏:‏ «أًنَّ رَجُلاً قال‏:‏ واللَّهِ لا يَغفِرُ الله لفُلانِ، وإنَّ اللَّهَ قالَ‏:‏ مَن الذي يَتَأَلّى عَلَيَّ أَلاَّ أَغفِرَ لفُلانِ، وإنّي غَفَرتُ لَه، وأحبطَتُ عَمَلك» أو كما قال؛ لأن هذا الرجل كان من بني إسرائيل، ولعل شرعهم مخالف لشرعنا؛ لأن هذه الأمة المحمدية قد وضع الله عنها أثقال بني إسرائيل، فهي ملة سمحة، ولعل هذا الرجل أيضاً كان قانطاً من رحمة الله ومكذباً بها، فهو كافر‏.‏ انظر الحاشية الفاسية‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ سابقون ومخلطون ومنهمكون‏.‏ فالسابقون فائزون، والمخلطون راجون، والمنهمكون هالكون، إلا من تاب وعمل صالحاً، فالسابقون هم الذين غلب إحسانهم على إساءتهم، وصفاؤهم على كدرهم، إن هفوا رجعوا قريباً، فقد تمر عليهم السنين الطويلة، ولا يكتب عليهم ملك الشمال شيئاً؛ وذلك ليقظتهم، لا لعصمتهم، والمخلطون هم الذين يكثر سقوطهم ورجوعهم، عسى الله أن يتوب عليهم‏.‏ والمنهمكون هم المصرون على الفواحش، فإن سبقت لهم عناية رجعوا، وإن لم تسبق لهم عناية فهم مُعرِّضون لنقمة الله وحلمه، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏خُذْ من أموالهم‏}‏ التي عرضوها عليك ‏{‏صدقة‏}‏، وهو الثلث، فأخذ عليه الصلاة والسلام من أموالهم الثلث، وترك لهم الثلثين، أو‏:‏ خذ من أموالهم صدقة، وهي الزكاة المفروضة، والضمير لجميع المسلمين‏.‏ من صفة تلك الصدقة‏:‏ ‏{‏تُطهّرهُم‏}‏ أنت يا محمد بها من الذنوب، أو حب المال المؤدي بهم إلى البخل، الذي هو أقبح الذنوب‏.‏ وقرئ بالجزم؛ جواب الأمر‏.‏

‏{‏وتُزكِّيهم‏}‏ أي‏:‏ تنمي بها حسناتهم، أو ترفعهم ‏{‏بها‏}‏ إلى درجات المخلصين، ‏{‏وَصَلِّ عليهم‏}‏ أي‏:‏ ترحم عليهم، وادع لهم بالرحمة، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لمن أتاه بصدقته‏:‏ «اللهُم صَل عَلى آلِ فُلان»‏.‏ فأتى أبو أوفى بصدقته فقال‏:‏ «اللهم صلِّ على آل أَبي أَوفَى»‏.‏

‏{‏إِن صلاتك سَكَنٌ لهم‏}‏؛ تسكن إليها نفوسهم، وتطمئن بها قلوبهم، لتحققهم بقبول دعائه عليه الصلاة والسلام‏.‏ قال القشيري‏:‏ انتعاشهم بهمَّتِكَ معهم أتم من استقلالهم بأموالهم‏.‏ ه‏.‏ وجمع الصلوات؛ لتعدد الموعد لهم، وقرأ الأخَوانِ وحفص بالتوحيد‏.‏ ‏{‏والله سميعٌ عليم‏}‏؛ أي‏:‏ سميع باعترافهم عليم بندامتهم‏.‏

‏{‏إلمْ يعلموا أن الله هو يقبلُ التوبةَ عن عباده‏}‏ إذا صحت، والضمير إما للتوب عليهم، والمراد أن يُمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتذار بصدقتهم، أو لغيرهم، والمراد به التحضيض على التوبه، ‏{‏و‏}‏ أنه هو الذي ‏{‏يأخذُ الصدقات‏}‏؛ يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله، ‏{‏وأن الله هو التوابُ الرحيم‏}‏ أي‏:‏ من شأنه قبول توبة التائبين، والمتفضل عليهم بجوده وإحسانه‏.‏

الإشارة‏:‏ أخذ المشايخ من أموال الفقراء سبب في غناهم، واتساع حالهم حساً ومعنى، وقد قالوا‏:‏ إذا أراد اللهُ أن يغني فقيراً سلط عليه ولياً يأخذ ماله، أو أمره شيخه بإعطاء ماله، فإن ذلك عنوان على غناه‏.‏ وقد ذكر ذلك شيخ أشياخنا سيدي علي الجمل العراني في كتابه‏.‏ وقد رأيت في مناقب شرفاء وزان‏:‏ أن الشيخ مولاي التهامي أرسل إلى أخيه مولاي الطيب، وكان من خواص تلامذته، أن يدفع إليه جميع ماله ليصنع به كسرة للمرابطين، فأرسل له جميع ما يملك، حتى كسوة الدار وأثاث البيت، فكان ذلك سبباً في فيضان ماله، فلا تجد مدينة ولا قبيلة إلا وفيها مِلكٌ من أملاك مولاي الطيب، حتى إلى بلاد الجزائر وما والاها، وذلك بسبب شيخه له‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقل اعملوا‏}‏ ما شئتم من خير أو شر، ‏{‏فسيرى اللهُ عملَكُم‏}‏؛ فإنه لا يخفى عليه؛ خيراً كان أو شراً، ‏{‏و‏}‏ سيرى ذلك أيضاً ‏{‏رسولُهُ والمؤمنون‏}‏، فيظهر لهم ما يبدو منكم، فإن الطول يفضح صاحبه‏.‏ ‏{‏وستُرَدُون إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏، بالموت، ‏{‏فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏؛ فيخبركم بما عملتم؛ بالمجاوزة عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من ظهر بدعوى أو تعرض لمقام من المقامات يقال له‏:‏ ‏{‏وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏؛ فإن كان إمره مبنياً على أساس الإخلاص والتقوى ثبت وانتهض، وشعشع نوره، وإن كان مبنياً على أساس، افتضح وكََسَف نوره، وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلاً بعلمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الإرجاء هو التأخر، يقال‏:‏ أرجاه بالهمز وتركه‏:‏ أَخره‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وآخرون‏}‏ من المتخلفين، تخلفوا من غير عُذر، ولم يعتذروا بشيء، ‏{‏مُرْجَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ مؤخرون ‏{‏لأمرِ الله‏}‏ في شأنهم؛ ‏{‏إما‏}‏ أن ‏{‏يُعَذِّبهم‏}‏ على تخلفهم عن الجهاد مع رسوله، ‏{‏وإما‏}‏ أن ‏{‏يتوب عليهم‏}‏ حيث تابوا وندموا، والترديد باعتبار العباد، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادته تعالى، ‏{‏والله عليم‏}‏ بأحوالهم، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما فعل بهم‏.‏

والمراد بهؤلاء الثلاثة‏:‏ كَعْب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومُرَارَة بن الربيع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ألا يُسلموا عليهم ولا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم، وفوضوا أمرهم إلى الله، فرحمهم، وسيأتي تمام قصتهم وتوبة الله عليهم بعدُ، إو شاء الله‏.‏

الإشارة‏:‏ وآخرون مؤخرون عن صحبة المشايخ العارفين، حتى ماتوا مفروقين، إما أن يعذبهم على ما أصروا من المساوئ والذنوب، وإما أن يتوب عليهم بفضله وكرمه، إنه عليم لا يخفى عليه ما أسروا، حكيم فيما قضى عليهم من أمر الحجاب بعدله وقضائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 110‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قرأ نافع وابن عامر‏:‏ بغير واو؛ مبتدأ حذف خبره، أي‏:‏ معذبون، أو في‏:‏ ‏(‏لا تقم فيه أبداً‏)‏، أو في قوله‏:‏ ‏(‏لا يزال‏)‏، أو صفة لقوله‏:‏ ‏(‏وآخرون‏)‏، على من يقول‏:‏ إن «المُرْجَوْن» غير الثلاثة المخلفين، بل في المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار‏.‏ وهو قرأ بالواو فعطف على قوله‏:‏ ‏(‏آخرون‏)‏، أو مبتدأ حُذف خبره، أي‏:‏ وممن وصفنا‏:‏ الذين، أو منصوب على الذم، و‏(‏ضراراً‏)‏ وما بعده‏:‏ علة، وأصل ‏(‏هارٍ‏)‏‏:‏ هائر، فأخرت الهمزة، ثم قلبت ياء، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ منهم ‏{‏الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً‏}‏ أي‏:‏ لأجل المضارة بالمؤمنين والكفر الذي أسروه، وهو تعظيم أبي عامر الكافر، ‏{‏وتفريقاً بين‏}‏ جماعة ‏{‏المؤمنين‏}‏ الذين كانوا يُصلون في مسجد قباء‏.‏

رُوي أن بَني عَمْرو بن عوف لَمَّا بَنَوا مسجد قُباء سألوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهمْ فيصلي فيه، فأتاهُمْ فصلَّى فيه، فَحَسدتهم إخوانُهم؛ بَنو غُنم بن عوفٍ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب، إذا قدم من الشام، فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة، فصل لنا فيه حتى نتخذهُ مصلى، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك، فقال لهم‏:‏ «إني عَلى جَنَاح سَفَرٍ، وإذا قَدِمنا، إِن شاء الله، صلَّينا فيه»‏.‏ فلما قدم أتوه، فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت الآية، فدعا مالك بن الدُّخشم، ومَعن بن عدي، وعامر بن السَّكن، فقال‏:‏ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه؛ ففعلوا، واتخذوا مكانه كناسة‏.‏

ثم أشار إلى قصدهم الفاسد، فقال‏:‏ ‏{‏وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله‏}‏؛ أي‏:‏ واتخذوه انتظاراً ليؤمهم فيه من حارب الله ورسوله، يعني‏:‏ أبا عامر الراهب، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ لا أجد قوماً يقاتلونك إلاَّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فانهزم مع هوازن، ثم هرب إلى الشام؛ ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات بِقنَّسرَينَ طريداً وحيداً‏.‏ وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة‏:‏ الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من قبلُ‏}‏‏:‏ متعلق بحارب، أي‏:‏ حارب من قبل هذا الوقت، أو باتخذوا، أي‏:‏ اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف؛ لأنه قبيل غزوة تبوك‏.‏ ‏{‏وليَحلِفُن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏ أي‏:‏ ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين‏.‏ ‏{‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ في حلفهم‏.‏

ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال‏:‏ ‏{‏لا تَقُم فيه أبداً‏}‏ للصلاة؛ إسعافاً لهم، ‏{‏لمسجدٌ أُسسَ على التقوى من أول يوم‏}‏ من أيام وجوده، ‏{‏أحقٌ أن تقوم فيه‏}‏ أي‏:‏ أولى بأن تصلى فيه، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مُقامه بقباء، حين هاجر من مكة، من الاثنين إلى الجمعة، وهذا أوفق للقصة‏.‏

وقيل‏:‏ مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقول أبي سعيد‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه‏؟‏ فقال‏:‏ «مسْجدُكم هذا، مَسجِدُ المَدِينَةِ» ‏{‏فيه رجال يُحبون أن يتطهروا‏}‏، كانوا يستنجون بالماء، ويجمعون بين الماء والحجر، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة، طلباً لمرضات الله تعالى، أو من الجنابة، فلا ينامون عليها، ‏{‏والله يُحبُ المُطَّهرِين‏}‏؛ يرضى عنهم، ويُدنيهم من جنابه إدْناء المحب لحبيبه‏.‏

وقيل‏:‏ لما نَزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المُهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قُباء، فإذا الأنصار جُلوس، فقال‏:‏ «أَمؤمِنونَ أَنتُم» فَسَكَتُوا، فأعادَها، فقال عمر‏:‏ إنهم مؤمنون وَأَنا مَعَهم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أَتَرضَونَ بالقَضاء» فقالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ «أَتَصبِرون على البلاء» قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ «أَتشْكرونَ في الرَّخاء» قالوا‏:‏ نعم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مؤمِنُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ» فَجَلَسَ، ثم قال‏:‏ «يا مَعشَرَ الأنْصَار، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَثنى عَلَيكم، فما الذي تَصنَعُون عند الوضوء وعِندَ الغائط» فقالوا‏:‏ يا رسول الله، نُتبع الغائط الأحجارَ الثلاثةَ، ثم نُتبعُ الأحجار المَاء‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ يُحِبُون أن يتَطَّهَروا‏}‏ «‏.‏

‏{‏أفمن أَسسَ بُنيانه على تقوى مِنَ الله ورضوان‏}‏؛ بإنه قصد به وجه الله، وابتغاء مرضاته، فَحسُنت النية في أوله، ‏{‏خيرٌ أم من أسس بنيانه على‏}‏ قصد الرياء والمنافسة، فكأنه بنى على ‏{‏شفَا‏}‏ أي‏:‏ طرف ‏{‏جُرُفٍ‏}‏‏:‏ حفرة ‏{‏هَارٍ‏}‏ أي‏:‏ واهٍ ضعيف، أشرف على السقوط، أو ساقط، ‏{‏فانهار به في نار جهنم‏}‏ أي‏:‏ طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاوز، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار، الذي هو من شأن الجرف، وقيل‏:‏ إن ذلك حقيقة، وإنه سقط في جهنم، وإنه لم يزل يظهر الدخان في موضعه إلى قيام الساعة‏.‏

والاستفهام للتقرير، والذي أُسس على التقوى والرضوان‏:‏ هو مسجد قباء، أو المدينة، على ما تقدم، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على سفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ‏.‏ قاله ابن جزي‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ إلى ما فيه صلاح ونجاه‏.‏

‏{‏لا يزالُ بُنيانُهم‏}‏ أي‏:‏ مبنيهم، مصدر بمعنى المفعول، ‏{‏الذي بَنوا ريبةً‏}‏ أي‏:‏ شكاً ونفاقاً ‏{‏في قلوبهم‏}‏، والمعنى‏:‏ أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم، فإنه حملهم على ذلك، ثم لما هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم، ‏{‏إلا أن تقطع‏}‏ بالموت، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أو لا يزال بنيانهم ريبة، أي‏:‏ شكاً في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم، أو غيظاً بسبب هدمه، ‏{‏والله عليمٌ‏}‏ بنياتهم، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما أمر من هدم بنيانهم‏.‏

الإشارة‏:‏ من أراد أن يؤسس بنيان أعماله وأحواله على التقوى والرضوان، فليؤسسه على الإخلاص والنية الحسنة، ومتابعة السنة المحمدية، فإنها لا تنهدم أبداً، ومن أراد أن يؤسسها على شفا جرف هارٍ فليؤسسها على الرياء والسمعة، وقصد الكرامات وطلب الأعواض، فإنها تنهدم سريعاً ولا تدوم، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏(‏يقاتلون‏)‏‏:‏ حال من ‏(‏المؤمنين‏)‏؛ بياناً للشراء، أو استئنافاً؛ لبيان ما لأجله الشراء، وقيل‏:‏ «يقاتلون»‏:‏ بمعنى الأمر، و‏(‏وعداً‏)‏‏:‏ مصدراً لما دل عليه الشراء، فإنه في معنى الوعد، أي‏:‏ وعدهم وعداً حقاً لا خلف فيه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ أي‏:‏ عوضهم في بذل مُهجهم وأموالهم في سبيله الجنة ونعيمها، ومن جملته‏:‏ النظر إلى وجهه الكريم‏.‏ قال بعضهم‏:‏ فانظر‏.‏‏.‏‏.‏ ما أكرمه سبحانه، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة‏.‏ ه‏.‏

ثم بيَّن وجه الشراء فقال‏:‏ ‏{‏يُقاتِلُون في سبيل الله‏}‏ لإعلاء كلمة الله، ‏{‏فيَقتلون‏}‏ الكفارَ، ‏{‏ويُقتلون‏}‏ شهداء في سبيل الله‏.‏ وقرأ الأخَوَانِ بتقديم المبني للمفعول؛ لأن الواو لا ترتب، وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل، أي‏:‏ فيموت بعضهم ويجاهد الباقي‏.‏ وعد ذلك لهم ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏؛ لا خلف فيه، مذكوراً ذلك الوعد ‏{‏في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏ أي‏:‏ إن الله بيَّن في الكتابين أن الله اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة، كما بيَّنه في القرآن، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد‏.‏ ‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ ‏؟‏ هومبالغة في الإنجاز، أي‏:‏ لا أحد أوفى منه بالعهد، ‏{‏فاستبشروا ببيعكُم الذي بايعتم به‏}‏ أي‏:‏ فافرحوا به غاية الفرح، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب، كما قال‏:‏ ‏{‏وذلك هو الفوزُ العظيم‏}‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ناهيك من بيع، البائع فيه رب العلا، والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة، فمن باع نفسه لله؛ بأن خالف هواها وخرق عوائدها، وسعى في طلب مولاها، عوضه جنة المعارف، معجلة، وزاده جنة الزخارف، مؤجلة‏.‏ ومن باع ماله؛ بأن أنفقه في مرضاة الله، وبخل بنفسه، عوضه جنة الزخارف، مؤجلة‏.‏

قال في الإحياء في باب الذكر وفضيلته‏:‏ وأنه يوجب الأنس والحب، فإذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى هو الذي يفارقه عند الموت، فلا يبقى معه في القبر أهل، ولا مال، ولا ولد، ولا ولاية، ولا يبقى معه إلا ذكر الله، فإن كان في أنس به تمتع به، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عن ذكر الله، ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته وتخلص من السجن الذي كان ممنوعاً فيه، عما به أنسُه‏.‏

ثم قال‏:‏ ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشهادة؛ لأن المطلوب هو الخاتمة، ومعنى الخاتمة‏:‏ وداع الدنيا كلها، والقدوم على الله، والقلب مستغرق بالله، منقطع العلائق عن غيره، والحاضرُ صَفّ القتال قد تجرد قلبه لله، وقطع طعمه من حياته، حباً لله وطمعاً في مرضاته، وحالة الشهيد توافق معنى قولك‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏، فإنه لا مقصود له سوى الله‏.‏

ه‏.‏ فما يجده أهل التملق من لذيذ الحلاوة في مناجاتهم، وأهل الشهود في حال غيبتهم في محبوبهم، ليس هو من نعيم الدنيا، بل من نعيم الجنة، قدَّمه الله لأوليائه، وهو معنى جنة المعارف المعجلة؛ عوضاً لمن باع نفسه لله‏.‏

قال بعض العارفين‏:‏ النفوس ثلاثة‏:‏ نفس معيبة، لا يقع عليها بيع ولا شراء، وهي نفس الكافر، ونفس تحررت؛ لا يصح بيعها، وهي نفس الأنبياء والمرسلين، لأنها خُلقت مطهرة من البقايا، ونفس يصح بيعها وشراؤها، وهي نفس المؤمن، فإذا باعها لله، واشتراها الحق تعالى منه، وقع عليها التحرير، وذلك حين تحرر من رقّ الأكوان، وتتخلص من بقايا الأثر‏.‏

وقال بعض أهل التحقيق‏:‏ اشترى الله تعالى أعز الأشياء بأجل الأشياء، وإنما اشترى الأنفس دون القلوب؛ لأن القلب حر لا يقع عليه البيع؛ لأنه لله؛ فلا يباع ولا يشتري، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «القلبُ بيت الرب»‏.‏

أي‏:‏ لأنه محل مناجاته، ومعدن معرفته، وخزانة سره، فليس للشيطان عليه من سبيل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وأما النفس فإنها مملوكة تباع وتشتري‏.‏ ه‏.‏